التخطي إلى المحتوى الرئيسي

مقال مُختار: عولمة الأخلاق.. وأثرها على الشباب المسلم


حاول أعداء الإسلام والمسلمين كثيرا القضاء على الإسلام، أو إخضاع بلاد الإسلام عن طريق الحروب والمعارك، فخاضوا مع المسلمين حروبا صليبية طويلة، انتصروا في بعضها وانهزموا في بعضها، احتلوا البلاد أزمنة وخرجوا من بعضها أيضا، وهزمهم المسلمون كثيرا ـ خصوصا في أزمنة قوة دولة الخلافة.. ولكنهم أدركوا في نهاية المطاف أن الغزو العسكري والقهر لا تأتي لهم بالنصر، ولا تنهي الصراع أبدا، فكان لابد من تغيير استراتيجية الغزو والتأثير، فعمدوا إلى سبيل آخر وهو الغزو الفكري، ثم انطلقوا منه إلى سلاح أكثرَ استهواءً، وأشدُّ مَضاءً، وهو إشعال الغرائز، بحملات محمومة، وسيل جارف من المثيرات المنحطة الغاية منها قتلَ المرُوءة، ولا سيما عند الشباب، قوةِ المجتمعات، وعصبِ التغيير والبناء.
بداية الغزو الثقافي: 
كانت بداية الغزو الثقافي لبلاد الإسلام مع ظهور التفوق الحضاري الغربي، والقفزات الهائلة التي سبقوا بها العالم الإسلامي الذي بدت عليه مظاهر الضعف والتخلف في أواخر دولة الخلافة، وخصوصا مع الاحتلال الفرنسي لمصر مما نتج عنه في النهاية انقسام المفكرين إلى قسمين: قسم انهزم تماما أمام هذه الحضارة الغربية ونادى بالأخذ بكل ما فيها من طيب وخبيث، وحتى الأمراض التي في بطونهم.. وقسم آخر لم يستطع أن ينادي بذلك جهارا، وإن كان قد انهزم أيضا أمام هذا التحول الحضاري الرهيب، فحاول التوفيق بين ثقافة الأمة والثقافة الجديدة. وكان ثمة قسم ثالث: وهو الذي حاول أخذ الحسن وترك القبيح، والاستفادة من النافع دون الضار، وأخذ ما يوافق قيمنا وثقافتنا وديننا، ولكن هذا الصوت كان أضعف من أن يسمعه أحد، وكان تيار الانهزامية جارفا وأقوى من أن يقف أمامه. وأنتجت هذه الحالة الصعبة والخطرة معا، ضياعا وفراغا تحياهما الشعوب العربية اليوم، وكان أكثر المتأثرين به فئة الشباب.
كان من الطبيعي أن تفوز المؤثرات الغربية بالنصيب الأوفر من التأثير الفاعل المنظم بتقنية عالية، وراحت آلة العولمة الثقافية والإعلامية تحرث في أرض العرب، وتجتث جذور الانتماء للدين والقيم ومفاهيم الإسلام والأخلاق العربية، ؛ وتزرع فيها في ذات الوقت من بذورها ومفاهيمها الغربية وتحل في أوساطٍ شباب المسلمين قيم الحرية الشخصية بمفهومها الغربي محل الحفاظ على الشرف والعرض، وتحتل النفعية الفردية والأنانية مكان الروح الجماعية والأنفة، وحلت القسوة والأثرة محل التراحم ونصرة المظلوم، وإغاثة الملهوف وقرى الضيف. وتزامن ذلك مع نظم سياسية وفشل اقتصادي ساعد على تزايد هذا الخلل الاجتماعي وأصاب الناس بالإحباط في إمكانية التغيير.
ومع حالة الشعور بالإحباط التي أصابت كثيرا من الآباء والمربين انسحب جمهرة من هؤلاء من مسؤولياتهم، وتخلوا عن أدوارهم؛ فاستبدت بالأبناء مؤثرات العولمة الغربية والإعلام التابع له، فملأت الفراغ، وأصبح التلفاز والإنترنت والفيديو كليب آباء وأمهات، يملؤون لهم فراغهم المعرفي والعاطفي، ولم ترحم تلك الوسائل، أو تقتصد، بل أسرفت وأفرطت، وتسارعت وتائر التغريب وتصاعدت جرعاته وهجماته لما يمكن تسميته بعولمة الأخلاق.
عولمة الأخلاق والهوية العربية: 
يقول الأستاذ عبد الوهاب المسيري متحدثا عن خطورة "عولمة الأخلاق": "والخطورة فيها أنها تسعى إلى تجريد المسلم من خصائصه بجعله بحسب تعبير البعض "الإنسان الطبيعي".. فالعولمة هي في جوهرها العودة إلى هذا الإنسان الذي لا يعرف الحدود ولا الهوية ولا الخصوصية، وليس عنده أي إدراك أو اكتراث بالقيم الأخلاقية والمعنوية مثل الكرامة والارتباط بالأرض والوطن والتضحية".
ولا شك أن هذه النوعية من البشر تكون إفرازا لحياة الترف والبذخ والرفاهية التي تنتج عن التقدم العلمي والتكنولوجي وارتفاع المستوى المعيشي، وتتوافق مع الرفاهية الشديدة التي يعيشها إنسان الغرب، والتي يحاول أن يصدر لنا نتائجها دون حياتها.
إنهم يدمرون الأخلاق: لقد عمل الغرب وأمريكا على تدمير الجانب الأخلاقي عند الشباب خصوصا، وعند عموم الناس، في البلاد التي احتلوها وفي بلاد الشرق عموما، ويعجب الإنسان من هذه الجهود المفرطة التي يبذلونها، والتكاليف الهائلة لتدمير الأخلاق لأنها باختصار تدمير الإنسان، وأي خسار بعد خسران الإنسان.
كان من أهم الأعمال التي حرص عليها أعداء الإسلام هو إدخال أفلام الجنس إلى غرف نوم المسلمين، وفي ذات الوقت ترويج المخدرات، وتيسير سبل وصولها للشباب خاصة، وقد كان ـ وما زال ـ يوزع في هذه البلاد مجلات وأشرطة لأفلام تجارية وإباحية بأسعار زهيدة في الوقت الذي تتكلف أضعاف أضعاف السعر الذي تباع به، مما يصدق قول الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}[الأنفال: 36].
وقد تزامن هذا مع محاولة إحداث ثورة في حياة المرأة وطبيعة حياتها في المجتمع الإسلامي  وإخراجها للشارع بأي وسيلة وتحت أي مسمى؛ إذ هو أول وأيسر طرق الفساد، ثم بعد ذلك المناداة بالحرية على الطريقة الغربية والأمريكية والتي لا تتناسب بأي حال مع المجتمع المسلم.
وقد أدت تلك السياسة بالفعل إلى انزلاق الشباب في تلك المسالك الخبيثة والتردي في تلك الأوحال من الرذيلة، حتى يمكن أن نسميها ظاهرة في أكثر بلاد المسلمين، وصار أكثر الشباب في حالة من الانهيار الأخلاقي والخمول واللامبالاة لواقع الامة ولا حتى لمراد الله من خلقه.
وقد أعان على هذا الظاهرة أمور اقتصادية وفكرية وثقافية متعددة، وكان أهم من كل ذلك الشعور بالإحباط العام الناتج عن انسداد الأفق، وعدم القدرة على تحقيق الطموحات الشخصية، ثم الحالة الانهزامية العامة للأمة والتي يتعمد الغرب إظهارها للمسلمين حتى يقتل الأمل في قلوبهم ويعيشوا شعور الذل والانكسار واستمراء المذلة والإهانة فلا يحاولون الخروج مما هم فيه.
الإسلام لا يموت: مهم جدا أن يفهم الشباب حقيقة المعركة، وأن يعلم أن ما تمر به الأمة إنما هو نتاج وثمار تعرضهم لعقود من التجهيل والتغريب، والهجوم على ثقافتنا ومبادئنا وطرائق تفكيرنا، والهجوم كذلك على كل ما هو إسلامي وكل ما هو أخلاقي، إنها حرب ضروس لم تضع أوزارها ولا للحظة، وكان لابد أن تأتي ببعض ثمارها سنة من سنن الله في الكون.
غير أن من هذه السنن أيضا أن هذا الدين يمرض ولا يموت، وأنه باق ببقاء الدنيا، وكم طاله وناله من أعدائه ما لو كان مع دين آخر لقضي عليه منذ قرون طويلة، ولكن الله كتب لهذا الدين الغلبة، ولأهله النصر إذا تمسكوا به وعملوا بما فيه.
إنها إذا معركة مع الذات بمحاولة التمسك بالإسلام، وتطهير النفس من الهوى ووساوس الشيطان، وعدم الاستجابة لحملات الغرب لإسقاط الإنسان أمام نفسه وإظهار عجزه أمام شهواته.
إن على الشباب أن يدركوا وعلينا أن ننبههم إلى الدور الخطير الذي تقوم به وسائل الإعلام الغربية غير البريئة؛ ومحاولات استقطابهم وتوجيههم إلى الوجهة التي يريدونها لهم، وشغل قلوبهم بملذات النفوس، وشهوات الجسد. ولابد أن يفهموا أيضا أن دور هذه الوسائل هو التحكم في رؤيتنا للعالم وتعمل -عن تقصّد ووعي - على تشكيل صورة سلبية لنا كمسلمين، وتضخيم المساوئ والأخطاء التي تقع من البعض وتعميمها على الإسلام والمسلمين ككل، وفي المقابل تعمل على طمس النماذج المشرقة، ومظاهر المقاومة، وغيرها من دلائل النهوض والصحوة التي تحياها الأمة في المشارق والمغارب.
إن على أبنائنا وشبابنا أن يعوا أن العالم الغربي يعيش إفلاسا أخلاقيا حقيقيا يعلنه الشرفاء منهم والناصحون المخلصون، ويحذرون من أثره على مستقبل الغرب وعلى حضارته، وعلى حساب القيمة الإنسانية العالية التي شرف الله بها الإنسان، ورفعه إليها خصوصا المسلمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- د.أسامة عثمان.. بتصرف
- أسئلة الهوية: عبد الوهاب المسيري.
--
رابط المقال الأصلي: هُنـــا

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لم ينتهِ الحبّ..

لم ينتهِ الحبُّ، لكن صبرنا نفِدا ! وعلّةُ الحبّ من ينسى الذي وعدا.. قلنا نعودُ غدًا ما حلّ فيه فلَم نُوفِّ في الغدِ ما قلنا يكونُ غدا ؟! قلنا نعودُ وحمّلنا الهوى أملاً ، أكانَ كلُّ الذي قلناهُ محضَ سُدى ؟! اليومَ أُعلنُ أنَّ البُعدَ منتصرٌ ، على الوفاءِ، وأنّ الشوقَ قد بَرُدا ! وأنَّ للوقتِ آثارًا نلاحظُها، على الحنينِ، وأن°˖للانتظارِ مدى.. وأنَّ ما كان في العينينِ مشتعلاً ، ما عادَ لمّا أطَلنا البينَ متّقدا ! وأنَّ أكذبَ وعدٍ قد نواعدهُ ، وعدٌ يكون مداهُ : العمرَ والأبدا.. لم ينتهِ الحبُّ، حاشى الحبَّ في دمنا أن ينتهي وهو من هذي الدما عُقِدا ولا نقول سرابٌ ما مضى، أبدًا ! ولو جحدناه دمعُ العينِ ما جَحدا.. لهُ علينا شهودٌ كلّما طرقت ذكرى لهُ، زلزلت في طرقها الجسدا .. لكنَّ للروحِ حدًّا لا تجاوزهُ في الصبرِ، والبعدُ فاقَ الصبرَ والجلدا ! اللهُ يشهدُ أنّي ما ارتضيت لنا جراحنا والأسى والحزنَ والكمدَا ولا رضيتُ لماضينا وقصتنا ، هذي النهايةَ، والأوجاعَ والنكدَا ولا انتهى الحبُّ في قلبي، وما فُقِدت مشاعري، لكنِ الصبرُ الذي فُقِدا !! اليومُ أُخفِضُ راياتي وأُسلِمُها للوقتِ،...

مُقال مُختار : النبوغ - مصطفى لطفي المنفلوطي

- من العجز أنْ يزدري المرء نفسه فلا يقيم لها وزنًا، وأنْ ينظر إلى من هو فوقه من الناس نظرَ الحيوان الأعجم إلى الحيوان الناطق. وعندي أنَّ مَن يخطئ في تقدير قيمته مستعليًا خيرٌ مِمَّن يخطئ في تقديرها متدليًا، فإنَّ الرجل إذا صَغُرَتْ نفسُه في عين نفسه يأبى لها مِنْ أحواله وأطواره إلا ما يشاكل منزلتها عنده، فتراه صغيرًا في علمه، صغيرًا في أدبه، صغيرًا في مروءته وهمته، صغيرًا في ميوله وأهوائه، صغيرًا في جميع شئونه وأعماله، فإن عَظُمَتْ نفسه عظم في جانبها كلُّ ما كان صغيرًا في جانب النفس الصغيرة. ولقد سأل أحد الأئمة العظماء ولده، وكان نجيبًا: «أيَّ غايةٍ تطلب في حياتك يا بُنَيَّ؟ وأيَّ رجلٍ من عظماء الرجال تحب أن تكون؟» فأجابه: «أحب أن أكون مثلك.» فقال: «ويحك يا بنيَّ، لقد صغرت نفسك، وسَقَطَتْ هِمَّتُكَ، فلتبكِ على عقلك البواكي! لقد قدَّرتُ لنفسي يا بنيَّ في مبدأ نشأتي أن أكون كعليِّ بن أبي طالب، فما زلت أجِدُّ وأكدح حتى بلغت المنزلة التي تراها، وبيني وبين عليٍّ ما تعلمُ من الشأو البعيد والمدى المستحيل، فهل يسرُّك — وقد طلبتَ منزلتي — أن يكون ما بينك وبيني من المدى مثل ما بيني وبين عل...

ملخص محاضرة: القراءة والمعرفة في زمن شبكات التواصل - للأستاذ عبد الله الوهيبي

عنوان المحاضرة: القراءة والمعرفة في زمن شبكات التواصل. المُحاضِر فيها: أ. عبد الله الوهيبي. مدّة المحاضرة:  1:15:48 -أهم عناصر المحاضرة: 1- ملامح المرحلة الجديدة في التواصل الإلكتروني (شبكات التواصل الاجتماعي). 2- آثار شبكات التواصل الإجتماعي: (اجتماعية - نفسية - اقتصادية - أخلاقية وقانونية - سياسية - علمية ومعرفية). 3- أفكار عملية للقراءة واستثمار شبكات التواصل. من ملامح المرحلة الجديدة: أرقام سريعة لشبكات التواصل: عدد المستخدمين النشطين 3 مليار و400 مليون نقريبًا موزّعين على الفيسبوك والواتساب وتويتر وإنستاجرام واللاين. إحصائية استخدام الشبكات في السعودية: 14% = أقل من ساعتين. 24% = بين 2 و4 ساعات. 13% = بين 4 إلى 8 ساعات. 5% = أكثر من 8 ساعات. 42%= متصل دائمًا. - في أكثر من7 منصّات لشبكات التواصل الاجتماعي يتفوّق الحضور النسائي بنسبة جيدة على الرجال [ سناب شات، إنستاجرام ، واتس آب، تويتر، فيس بوك ] آثار شبكات التواصل: 1- آثار اجتماعيّة 2- نفسيّة 3- اقتصاديّة 4- قانونية و أخلاقية 5- علميّة ومعرفية 6- سياسية 7- صحيّة 8- تربوية. - الآثار الاجتماعية:   1- ض...