التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الأخلاق، أمرٌ فطريّ، أم يمكن اكتسابها؟


لدينا حقيقة ثابتة لابد من ملاحظتها في مجال كلِّ تكليف رباني: هي أنَّ الله تبارك وتعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها، فمسؤولية الإنسان تنحصر في نطاق ما يدخل في وسعه، وما يستطيعه من عمل، أما ما هو خارج عن وسع الإنسان واستطاعته، فليس عليه مسؤولية نحوه، يضاف إلى ذلك أنَّ نسبة المسؤولية تتناسب طردًا وعكسًا مع مقدار الاستطاعة...

فما كان من الطباع الفطرية قابلًا للتعديل والتبديل، ولو في حدود نسب جزئية، لدخوله تحت سلطان إدارة الإنسان وقدرته، كان خاضعًا للمسؤولية، وداخلًا في إطارها تجاه التكاليف الربانية، وما لم يكن قابلًا للتعديل والتبديل، لخروجه عن سلطان إرادة الإنسان وقدرته، فهو غير داخل في إطار المسؤولية تجاه التكاليف الربانية.

وبناء على ذلك فإننا نقول وفق المفاهيم الدينية: لو لم يكن لدى كلِّ إنسان عاقل قدرة على اكتساب حدٍّ ما من الفضائل الأخلاقية؛ لما كلفه الله ذلك.
وليس أمر قدرة الإنسان على اكتساب حدٍّ ما من كلِّ فضيلة خلقية بعيدًا عن التصور والفهم، ولكنه بحاجة إلى مقدار مناسب من التأمل والتفكير.

أليست استعدادات الناس لأنواع العلوم المختلفة متفاوتة، فبعضهم أقدر على تعلم الفنون الجميلة من بعض، وبعضهم أقدر على تعلم العلوم العقلية من بعض، وبعضهم أقدر على حفظ التواريخ والحوادث أو حفظ النصوص من بعض؟
إنه... ما من إنسان عاقل إلا ولديه قدرة على اكتساب مقدار ما من فضائل الأخلاق، وفي حدود هذا المقدار الذي يستطيعه يكون تكليفه، وتكون مسؤوليته، ثم في حدوده تكون محاسبته ومجازاته.

إنَّ أسرع الناس استجابة لانفعال الغضب، يستطيع بوسائل التربية أن يكتسب مقدارًا ما من خلق الحلم، ومتى صمم بإرادته أن يكتسب ذلك فإنه يستطيعه، لذلك فهو مسؤول عن اكتساب ما يستطيعه منه، فإذا هو أهمل تربية نفسه، وتركها من غير تهذيب تنمو نمو أشواك الغاب، فإنَّه سيحاسب على إهماله، وسيجني ثمرات تقصيره.

وإن أشد الناس بخلًا وأنانية وحبًّا للتملك، يستطيع بوسائل التربية أن يكتسب مقدارًا ما من خلق حب العطاء، ومتى صمم بإرادته أن يكتسب ذلك فإنه يستطيعه، لذلك فهو مسؤول عن اكتساب القدر الواجب شرعًا منه، فإذا هو أهمل تربية نفسه، وتركها من غير تهذيب فإنَّه سيحاسب على إهماله، وسيجني ثمرات تقصيره.

والمفطور على نسبة كبيرة من الجبن، يستطيع أن يكتسب بالتربية المقترنة بالإرادة والتصميم مقدارًا ما من خلق الشَّجاعَة، قد لا يبلغ به مبلغ المفطور على نسبة عالية من الشَّجاعَة، ولكنه مقدار يكفيه لتحقيق ما يجب عليه فيه أن يكون شجاعًا، وضمن الحدود التي هو مسؤول فيها.

وأشد الناس أنانية في تكوينه الفطري، يستطيع أن يكتسب بالتربية المقترنة بالإرادة والتصميم مقدارًا ما من الغيرية والإيثار، قد لا يبلغ فيه مبلغ المفطور على محبة الآخرين، والرغبة بأن يؤثرهم على نفسه، ولكنه مقدار يكفيه لتأدية الحقوق الواجبة عليه تجاه الآخرين.

وهكذا نستطيع أن نقول: إن أية فضيلة خلقية، باستطاعة أي إنسان عاقل، أن يكتسب منها بالتربية المقترنة بالإرادة والتصميم، المقدار الذي يكفيه لتأدية واجب السلوك الأخلاقي.
والناس من بعد ذلك يتفاوتون بمدى سبقهم وارتقائهم في سلم الفضائل.

وتفاوت الاستعدادات والطبائع، لا ينافي وجود استعداد عام صالح لاكتساب مقدار ما من أي فرع من فروع الاختصاص، سواء أكان ذلك من قبيل العلوم، أو من قبيل الفنون، أو من قبيل المهارات، أو من قبيل الأخلاق.

وفي حدود هذا الاستعداد العام، وردت التكاليف الشرعية الربانية العامة، ثم ترتقي من بعده مسؤوليات الأفراد بحسب ما وهب الله كلًّا منهم من فطر، وبحسب ما وهب كلا منهم من استعدادات خاصة، زائدة على نسبة الاستعداد العام.

ولو أنَّ بعض الناس كان محرومًا من أدنى حدود الاستعداد العام الذي هو مناط التكليف، فإنَّ التكليف لا يتوجه إليه أصلًا، ومن سلب منه هذا الاستعداد بسبب ما ارتفع عنه التكليف، ضرورة اقتران التكليف بالاستطاعة، كما أوضحت ذلك نصوص الشريعة الإسلامية.

ووفق هذا الأساس، جاءت التكاليف الشرعية بالتزام فضائل الأخلاق واجتناب رذائلها.
ووفق هذا الأساس، وضع الإسلام الخطط التربوية التي تنفع في التربية على الأخلاق الفاضلة، فالاستعداد لذلك موجود في الواقع الإنساني، وإن اختلفت نسبة هذا الاستعداد من شخص إلى آخر. وفي الإصلاح التربوي قد يقبل بعض الناس بعض فضائل الأخلاق بسهولة، ولا يقبل بعضها الآخر إلا بصعوبة ومعالجة طويلة المدى، وقد تقل نسبة استجابته..
.
.
- نصٌ من كتاب: الأخلاق الإسلامية وأسسها لـ عبد الرحمن حسن حبنكة.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لم ينتهِ الحبّ..

لم ينتهِ الحبُّ، لكن صبرنا نفِدا ! وعلّةُ الحبّ من ينسى الذي وعدا.. قلنا نعودُ غدًا ما حلّ فيه فلَم نُوفِّ في الغدِ ما قلنا يكونُ غدا ؟! قلنا نعودُ وحمّلنا الهوى أملاً ، أكانَ كلُّ الذي قلناهُ محضَ سُدى ؟! اليومَ أُعلنُ أنَّ البُعدَ منتصرٌ ، على الوفاءِ، وأنّ الشوقَ قد بَرُدا ! وأنَّ للوقتِ آثارًا نلاحظُها، على الحنينِ، وأن°˖للانتظارِ مدى.. وأنَّ ما كان في العينينِ مشتعلاً ، ما عادَ لمّا أطَلنا البينَ متّقدا ! وأنَّ أكذبَ وعدٍ قد نواعدهُ ، وعدٌ يكون مداهُ : العمرَ والأبدا.. لم ينتهِ الحبُّ، حاشى الحبَّ في دمنا أن ينتهي وهو من هذي الدما عُقِدا ولا نقول سرابٌ ما مضى، أبدًا ! ولو جحدناه دمعُ العينِ ما جَحدا.. لهُ علينا شهودٌ كلّما طرقت ذكرى لهُ، زلزلت في طرقها الجسدا .. لكنَّ للروحِ حدًّا لا تجاوزهُ في الصبرِ، والبعدُ فاقَ الصبرَ والجلدا ! اللهُ يشهدُ أنّي ما ارتضيت لنا جراحنا والأسى والحزنَ والكمدَا ولا رضيتُ لماضينا وقصتنا ، هذي النهايةَ، والأوجاعَ والنكدَا ولا انتهى الحبُّ في قلبي، وما فُقِدت مشاعري، لكنِ الصبرُ الذي فُقِدا !! اليومُ أُخفِضُ راياتي وأُسلِمُها للوقتِ،...

مُقال مُختار : النبوغ - مصطفى لطفي المنفلوطي

- من العجز أنْ يزدري المرء نفسه فلا يقيم لها وزنًا، وأنْ ينظر إلى من هو فوقه من الناس نظرَ الحيوان الأعجم إلى الحيوان الناطق. وعندي أنَّ مَن يخطئ في تقدير قيمته مستعليًا خيرٌ مِمَّن يخطئ في تقديرها متدليًا، فإنَّ الرجل إذا صَغُرَتْ نفسُه في عين نفسه يأبى لها مِنْ أحواله وأطواره إلا ما يشاكل منزلتها عنده، فتراه صغيرًا في علمه، صغيرًا في أدبه، صغيرًا في مروءته وهمته، صغيرًا في ميوله وأهوائه، صغيرًا في جميع شئونه وأعماله، فإن عَظُمَتْ نفسه عظم في جانبها كلُّ ما كان صغيرًا في جانب النفس الصغيرة. ولقد سأل أحد الأئمة العظماء ولده، وكان نجيبًا: «أيَّ غايةٍ تطلب في حياتك يا بُنَيَّ؟ وأيَّ رجلٍ من عظماء الرجال تحب أن تكون؟» فأجابه: «أحب أن أكون مثلك.» فقال: «ويحك يا بنيَّ، لقد صغرت نفسك، وسَقَطَتْ هِمَّتُكَ، فلتبكِ على عقلك البواكي! لقد قدَّرتُ لنفسي يا بنيَّ في مبدأ نشأتي أن أكون كعليِّ بن أبي طالب، فما زلت أجِدُّ وأكدح حتى بلغت المنزلة التي تراها، وبيني وبين عليٍّ ما تعلمُ من الشأو البعيد والمدى المستحيل، فهل يسرُّك — وقد طلبتَ منزلتي — أن يكون ما بينك وبيني من المدى مثل ما بيني وبين عل...

ملخص محاضرة: القراءة والمعرفة في زمن شبكات التواصل - للأستاذ عبد الله الوهيبي

عنوان المحاضرة: القراءة والمعرفة في زمن شبكات التواصل. المُحاضِر فيها: أ. عبد الله الوهيبي. مدّة المحاضرة:  1:15:48 -أهم عناصر المحاضرة: 1- ملامح المرحلة الجديدة في التواصل الإلكتروني (شبكات التواصل الاجتماعي). 2- آثار شبكات التواصل الإجتماعي: (اجتماعية - نفسية - اقتصادية - أخلاقية وقانونية - سياسية - علمية ومعرفية). 3- أفكار عملية للقراءة واستثمار شبكات التواصل. من ملامح المرحلة الجديدة: أرقام سريعة لشبكات التواصل: عدد المستخدمين النشطين 3 مليار و400 مليون نقريبًا موزّعين على الفيسبوك والواتساب وتويتر وإنستاجرام واللاين. إحصائية استخدام الشبكات في السعودية: 14% = أقل من ساعتين. 24% = بين 2 و4 ساعات. 13% = بين 4 إلى 8 ساعات. 5% = أكثر من 8 ساعات. 42%= متصل دائمًا. - في أكثر من7 منصّات لشبكات التواصل الاجتماعي يتفوّق الحضور النسائي بنسبة جيدة على الرجال [ سناب شات، إنستاجرام ، واتس آب، تويتر، فيس بوك ] آثار شبكات التواصل: 1- آثار اجتماعيّة 2- نفسيّة 3- اقتصاديّة 4- قانونية و أخلاقية 5- علميّة ومعرفية 6- سياسية 7- صحيّة 8- تربوية. - الآثار الاجتماعية:   1- ض...