أيّ لهيب هذا الذي يُحاصرك من كل مكان؟
كل الأزاهير في قلبك تحترق تباعًا، فتذروها الريح دخانًا يشرد في كل اتجاه! كل الأشياء التي بين يديك، سلاسل تربطك إلى التراب؛ فتثَّاقل عن الانطلاق بعيدًا عن معتقلات مملكة الرماد!
أيّ كون؛ أم أي سجن؛ هذا الذي ترزح فيه؟ ولا نافذة تنفرج منه إلى السماء!
ويحك يا صاح! هذه أشياؤك التي تعبدها تلاحقك كل مساء فتتحطم فوق رأسك، ثم تبيت ليلتك تئنّ تحت ركامها!
وتستيقظ صباح كل يوم، لتدور كالآلة في دوامة رتيبة، ترشقك مسامير ذلك الضجيج نفسه، وتخنقك رائحة تلك الملفات نفسها، وتلهب وجهك لفحات الحرائق ذاتها.. وتطول آمالك، وتتسع أطماعك، وتمتد عيناك إلى مختلف الأشكال والألوان.. ولا تخرج عن نطاق أشيائك، التي لا تعدو أن تكون -في نهاية المطاف- مجرد حِفنةٍ من تراب!
وتجري بكل قواك خلف متاعها، تحرق في سبيل امتلاكها كل الطاقات، وقد لا تصل فتشقى.. وقد تصل، فما أن تضع يدك عليها حتى تصير مغلولة إليها! فإذا بك -وقد سعيت لتكون مالكًا- تصبح مملوكًا، لا تستطيع الفكاك! ثم تشقى أيضًا!
كم زينت لك الكلمات البراقة في إعلانات الإشهار أن تكون إلهًا! فبنيت القصور من حديد وحجر، وأجريت من تحتها الأنهار من عرق غير طاهر، فأعجبك أن تكون لها مديرًا، ثم صرت بها أسيرًا!
وكم زينت لك قصائد الحشاشين أن تكون نبيئا، فبنيت القصور من الخيال، وأسست مملكة النظر، وصرت توزع الفهوم كما تشاء.. فانطلى دجلك على الناس ردحًا من الزمن، ولكن العواصف لها موعد، فما لبثت مؤسساتك الوهمية أن تبين زيفها، فانهارت هياكلها حطبًا يُلْهبه غضب المستضعفين في كل مكان!
وجئت بعد خريف قاس، عاري الأغصان، تبحث عن دفء الحق في فؤادك، وسكون الاعتراف لذاتك باستحالة تذوق صفاء الحياة، وتدفقها الكوثري؛ من كؤوس التأله الحديدية، مهما تعددت أشكالها!
ليس لك الساعة يا صاح، إلّا أن تفرّ من أشيائك وأغلالك، لتنظر إلى نفسك من مرآة هادئة، لا انفطار فيها ولا اعوجاج، فهذا الأذان الصادح في الأفق الجميل، يدعوك لتتطلع ببصرك إلى السماء، وتُنصت إلى الكلمات، التي تتشكل ومضات مُشرقة، تُلخص قصة الكون المثير كلها في لحظات!!
...
ها أنت إذن تدخل خلوة الإيمان، مفارقًا تيه الوَحشة والضياع، ومستقبلًا بوارق من مقام الأنس بذكر الله.. تُلقي نظرةً إلى الوراء، فيهولك ركام الرماد الذي خلّفته حرائق الأيام الخوالي! ويملؤك شعورٌ بالخجل والندم.. عجبًا! كيف صنعت ما صنعت تحت سماء الله؟
كان النسيم الجميل الذي يهب من الجهة العلوية؛ يحمل معه رشاش مطر خفيف، فترتعش الأغصان منجذبة إلى شجونها، ثم يفيض الدمع الصامت؛ ليعمر القلب بطعم مقام الخوف والرجاء، عساه يورق ريشًا فجريّ اللون؛ فيطير إلى مقاف الأجنحة السبعة.. فمن بينها: "رجلٌ ذكر الله خاليًا، ففاضت عيناه!"
هذه يقظة، ولكل يقظة غفوة، أو غفلة، فخذ بأسباب (الإرادة): فإنها مقامات الابتداء بلا انتهاء، إلا أن يشاء الله! ثم اصحب الكون السالك، فلأحواله أمارات الوصول إلى أعتاب الله (...وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ!) [سورة غافر 55]
فشد ثيابك يا صاح إلى محاريب الجمال والجلال، وذُق من كؤوس التعبد ما ترى به سبيل السلام، مستقيمة واضحة في عصر الظلمات والانجراف، واحذر أن ينحرف بصرك عن مشاهدة النور الفياض من النبع العظيم! (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [سورة الكهف 28]
..
من كتاب قناديل الصلاة
لـ فريد الأنصاري، رحمات الله تغشاه..
كل الأزاهير في قلبك تحترق تباعًا، فتذروها الريح دخانًا يشرد في كل اتجاه! كل الأشياء التي بين يديك، سلاسل تربطك إلى التراب؛ فتثَّاقل عن الانطلاق بعيدًا عن معتقلات مملكة الرماد!
أيّ كون؛ أم أي سجن؛ هذا الذي ترزح فيه؟ ولا نافذة تنفرج منه إلى السماء!
ويحك يا صاح! هذه أشياؤك التي تعبدها تلاحقك كل مساء فتتحطم فوق رأسك، ثم تبيت ليلتك تئنّ تحت ركامها!
وتستيقظ صباح كل يوم، لتدور كالآلة في دوامة رتيبة، ترشقك مسامير ذلك الضجيج نفسه، وتخنقك رائحة تلك الملفات نفسها، وتلهب وجهك لفحات الحرائق ذاتها.. وتطول آمالك، وتتسع أطماعك، وتمتد عيناك إلى مختلف الأشكال والألوان.. ولا تخرج عن نطاق أشيائك، التي لا تعدو أن تكون -في نهاية المطاف- مجرد حِفنةٍ من تراب!
وتجري بكل قواك خلف متاعها، تحرق في سبيل امتلاكها كل الطاقات، وقد لا تصل فتشقى.. وقد تصل، فما أن تضع يدك عليها حتى تصير مغلولة إليها! فإذا بك -وقد سعيت لتكون مالكًا- تصبح مملوكًا، لا تستطيع الفكاك! ثم تشقى أيضًا!
كم زينت لك الكلمات البراقة في إعلانات الإشهار أن تكون إلهًا! فبنيت القصور من حديد وحجر، وأجريت من تحتها الأنهار من عرق غير طاهر، فأعجبك أن تكون لها مديرًا، ثم صرت بها أسيرًا!
وكم زينت لك قصائد الحشاشين أن تكون نبيئا، فبنيت القصور من الخيال، وأسست مملكة النظر، وصرت توزع الفهوم كما تشاء.. فانطلى دجلك على الناس ردحًا من الزمن، ولكن العواصف لها موعد، فما لبثت مؤسساتك الوهمية أن تبين زيفها، فانهارت هياكلها حطبًا يُلْهبه غضب المستضعفين في كل مكان!
وجئت بعد خريف قاس، عاري الأغصان، تبحث عن دفء الحق في فؤادك، وسكون الاعتراف لذاتك باستحالة تذوق صفاء الحياة، وتدفقها الكوثري؛ من كؤوس التأله الحديدية، مهما تعددت أشكالها!
ليس لك الساعة يا صاح، إلّا أن تفرّ من أشيائك وأغلالك، لتنظر إلى نفسك من مرآة هادئة، لا انفطار فيها ولا اعوجاج، فهذا الأذان الصادح في الأفق الجميل، يدعوك لتتطلع ببصرك إلى السماء، وتُنصت إلى الكلمات، التي تتشكل ومضات مُشرقة، تُلخص قصة الكون المثير كلها في لحظات!!
...
ها أنت إذن تدخل خلوة الإيمان، مفارقًا تيه الوَحشة والضياع، ومستقبلًا بوارق من مقام الأنس بذكر الله.. تُلقي نظرةً إلى الوراء، فيهولك ركام الرماد الذي خلّفته حرائق الأيام الخوالي! ويملؤك شعورٌ بالخجل والندم.. عجبًا! كيف صنعت ما صنعت تحت سماء الله؟
كان النسيم الجميل الذي يهب من الجهة العلوية؛ يحمل معه رشاش مطر خفيف، فترتعش الأغصان منجذبة إلى شجونها، ثم يفيض الدمع الصامت؛ ليعمر القلب بطعم مقام الخوف والرجاء، عساه يورق ريشًا فجريّ اللون؛ فيطير إلى مقاف الأجنحة السبعة.. فمن بينها: "رجلٌ ذكر الله خاليًا، ففاضت عيناه!"
هذه يقظة، ولكل يقظة غفوة، أو غفلة، فخذ بأسباب (الإرادة): فإنها مقامات الابتداء بلا انتهاء، إلا أن يشاء الله! ثم اصحب الكون السالك، فلأحواله أمارات الوصول إلى أعتاب الله (...وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ!) [سورة غافر 55]
فشد ثيابك يا صاح إلى محاريب الجمال والجلال، وذُق من كؤوس التعبد ما ترى به سبيل السلام، مستقيمة واضحة في عصر الظلمات والانجراف، واحذر أن ينحرف بصرك عن مشاهدة النور الفياض من النبع العظيم! (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [سورة الكهف 28]
من كتاب قناديل الصلاة
لـ فريد الأنصاري، رحمات الله تغشاه..
تعليقات
إرسال تعليق