
والصبرُ آخية* المؤمن التى يجول ثم يرجِع إليها، وساقُ إيمانه الذى لا اعتمادَ له إلا عليها، فلا إيمان لمن لا صبر له، وإن كانَ فإيمانٌ قليل في غاية الضعف، وصاحبه يعبد الله على حرف، فإن أصابَهُ خيرٌ اطمأن به، وإن أصابته فتنةٌ انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة، ولم يحظ منهما إلا بالصفقة الخاسرة..
فخيرُ عيشٍ أدركَهُ السُعداء بصبرهم، وترقّوا إلى أعلى المنازل بشُكرِهم، فساروا بين جناحيّ الصبر والشكر إلى جنات النعيم، وذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
ولمّا كان الإيمان نصفين: نصف صبر ونصف شكر، كان حقيقًا على مَن نَصَحَ نفسَهُ وأحبّ نجاتها وآثر سعادتها أن لا يهمل هذين الأصلين العظيمين، ولا يعدل عن هذين الطريقين القاصدين، وأن يجعل سيره إلى الله بين هذين الطريقين ليجعله الله يوم لقائه مع خير الفريقين..
فكذلك وُضِعَ هذا الكتاب للتعريف بشدّة الحاجةِ والضرورة إليهما وبيان توقف سعادة الدينا والآخرة عليهما، فجاء كتابًا جامعًا حاويًا نافعًا، فيهِ مِن الفوائدِ ما هو حقيقٌ على أن يُعضّ عليهِ بالنواجذ، وتُثنى عليه الخناصر، ممتعًا لقاريه صريحًا للناظر فيه، مسليًا للحزين، منهضًا للمُقصّرين، مُحرضًا للمُشمّرين، مُشتمِلاً على نِكاتٍ حِسان من تفسير القرآن، وعلى أحاديثَ نبوّية معزوةً إلى مَظانّها، وآثارٍ سلفية منسوبةً إلى قائلها، ومسائل فقهية حِسان مقرة بالدليل،
ودقائق سلوكية على سواء السبيل، لا تخفى معرفة ذلك على من فكّر وأحضَرَ ذهنَهُ، فإنّ فيه ذكرُ أقسامِ الصّبر، ووجوه الشُكر وأنواعه، وفصل النزاع في التفضيل بين الغنيّ الشاكر والفقير الصابر، وذكر حقيقة الدنيا وما مثلها الله ورسوله والسلف الصالح به، والكلام على سير هذه الأمثال، ومُطابقتها لحقيقة الحال، وذكر ما يُذم مِن الدنيا ويُحمد، وما يقرب منها إلى الله ويبعد، وكيف يشقى بها من يشقى، ويسعد بها من يسعد، وغير ذلك من الفوائد التى لا تكاد تظفر بها في كتاب، سواه وذلك محض منةًَ من الله على عبده، وعطيّة من بعض عطاياه.
فهو كتاب يصلُح للملوك والأمراء، والأغنياء والفقراء، والصوفية والفقهاء، ينهض بالقاعد إلى المسير، ويؤنس السائر في الطريق وينبّه السالك على المقصود، ومع هذا فهو جهد المُقلّ وقدرة المُفلس، حذّر فيه من الداء وإن كان مِن أهلِه ووصف فيه الدواء وإن لم يصبر على تناوله لظلمه وجهله وهو يرجوا أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين أن يغفر له غيه لنفسه بنصيحته لعباده المؤمنين..
فما كان في الكتاب مِن صواب فمن الله وحده فهو المحمود والمستعان وما كان فيه من خطأ فمن مُصنِّفهِ ومن الشيطان، والله برىء منه ورسوله وهذه بضاعه مؤلفة المرجاة تساق إليك، وسلعته تُعرض عليك فلقاريه غنمة وعلى مؤلفه غرمه، وبنات أفكارِه تُزفّ إليك فإن وجدت حُرًا كريمًا كان بها أسعد، وإلا فهي خوْدٌ تُزفّ إلى عنين مقعد..
وقد جعلتُهُ ستة وعشرين بابًا وخاتمة.
الباب الأول: في معنى الصبر لغة واشتقاق هذه اللفظة وتصريفها.الباب الثاني: في حقيقة الصبر وكلام الناس فيه.
الباب الثالث: في بيان أسماء الصبر بالاضافة إلى متعلقة.
الباب الرابع: في الفرق بي الصبر والتصبر والاصطبار والمصابرة.
الباب الخامس: في أقسام الصبر باعتبار محله.
الباب السادس في أقسامه بحسب اختلاف قوته وضعفه ومقاومته لجيش الهوى وعجزه عنه.
الباب السابع: في بيان أقسامه باعتبار متعلقه.
الباب الثامن: في انقسامه باعتبار تعلق الأحكام الخمسة به.
الباب التاسع: في بيان تفاوت درجات الصبر.
الباب العاشر: في انقسام الصبر إلى محمود ومذموم.
الباب الحادى: عشر في الفرق بين صبر الكرام وصبر اللئام.
الباب الثانى: عشر في الأسباب التي تعين على الصبر.
الباب الثالث: عشر في بيان أن الانسان لا يستغنى عن الصبر في حال من الأحوال.
الباب الرابع عشر: في بيان أشق الصبر على النفوس.
الباب الخامس عشر: في ذكر ما ورد في الصبر من نصوص الكتاب العزيز.
الباب السادس عشر: في ذكر ما ورد فيه من نصوص السنة.
الباب السابع عشر: في ذكر الآثار الواردة عن الصحابة في فضيلة الصبر.
الباب الثامن عشر: في ذكر أمور تتعلق بالمصيبة من البكاء والندب وشق الثياب ودعوى الجاهلية ونحوها.
الباب التاسع عشر: في الصبر نصف الايمان وأن الايمان نصفان صبر ونصف شكر. الباب العشرون: في بيان تنازع الناس في الأفضل من الصبر والشكر.
الباب الحادى والعشرون: في الحكم بين الفريقين والفصل بي الطائفين.
الباب الثاني والعشرون: في اختلاف الناس في الغنى الشاكر والفقير الصابر أيهما أفضل وما هو الصواب في ذلك.
الباب الثالث والعشرون: في ذكر ما احتجت به الفقراء من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار.
الباب الرابع والعشرون: في ذكر ما احتجت به الأغنياء من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار.
الباب الخامس والعشرون: في بيان الأمور المضادة للصبر والمنافية له والقادحة فيه.
الباب السادس والعشرون: في بيان دخول الصبر في صفات الرب جل جلاله وتسميته بالصبور والشكور.
سميتُه عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين والله المسؤل أن يجعله خالصًا لوجهه، مدنيًا من رضاه، وأن ينفع به مؤلفه وكاتبه وقارئه إنّه سميعُ الدعاء، وأهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل..
.
مقدمة كتاب: عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين
- للإمام ابن القيم
=
* آخية : عروة تثبّت في أرض أو حائط وتربط بها الدابة.
-
لتحميل الكتاب:عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين
تعليقات
إرسال تعليق