التخطي إلى المحتوى الرئيسي

شيخُ الإسلام ابن تيمية؛ يَحكي مِحنتنَا!


قد أجاد شيخُ الإسلام ابن تيمية في وصفِ الحدث وهوله، وهو يقارن بين واقعة التتار في الهجوم على دمشق-وهو شاهد عيان- وموقف الناس بإزائه ،فكأنّهُ يَحكي مِحنتنَا اليومَ، وما نُعانيه، فتدبَّر، وتأمَّل!


"فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسُنة اللهِ، وأيامه في عباده، ودأب الأمَم وعاداتهم، لا سيَّما في مثل هذه الحادثة العظيمة، التي طَبَّقَ الخافِقَين خبرُها، واستطار في جميع ديار الإسلام شررُها، وأطلَع فيها النفاقُ ناصيةَ رأسِه، وكشَّر فيها الكفرُ عن أنيابِه وأضراسِه. 

وكاد فيه عمودُ الكِتاب أن يُجتث ويُخترم، وحبل الإيمان أن ينقطعَ ويُصطَلم، وعُقر دار المؤمنين أن يَحِلَّ بها البوار، وأن يزول هذا الدين باستيلاء الفجَرة التتار. 

وظنَّ المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ؛ أن ما وعدَهم اللهُ ورسولُه إلا غُرورًا، وأن لن ينقلب حزبُ الله ورسولِه إلى أهليهم أبدًا، وزُين ذلك في قلوبهم، وظنوا ظنَّ السوء، وكانوا قومًا بُورًا. 

ونزلت فتنةٌ تركَت الحليمَ فيها حيرانَ، وأنزلت الرجلَ الصاحيَ منزلة السكران، وتركَت الرجلَ اللبيب لكثرة الوسواس؛ ليس بالنائم ولا اليقظان، وتناكَرت فيها قلوبُ المعارف والإخوان، حتى بقي للرجل بنفسه شغلٌ؛ عن أن يغيث اللهفان، وميَّز الله فيها أهلَ البصائر والإيقان، من الذين في قلوبهم مرضٌ، أو نفاقٌ، وضعفُ إيمان، ورفع بها أقوامًا إلى الدرجات العالية، كما خفض بها أقوامًا إلى المنازل الهاوية، وكفَّر بها عن آخرين أعمالَهم الخاطئة.

 وحدَث من أنواع البلوى ما جعلها قيامةً مُختصرة من القيامة الكبرى! 
فإن الناس تفرقوا فيها ما بين شقيٍّ وسعيد، كما يتفرقون كذلك في اليوم الموعود، وفرَّ الرجلُ فيها من أخيه وأمّه وأبيه؛ إذ كان لكل امرئٍ منهم شأنٌ يغنيه، ولم تنفع المنفعةُ الخالصة من الشكوى؛ إلا الإيمان والعمل الصالح والبرّ والتقوى.

 وبُليت فيها السرائر، وظهرَت الخبايا التي كانت تُكنُّها الضمائر، وتبيَّن أن البَهرج من الأقوال والأعمال؛ يخون صاحبَه أحوجَ ما كان إليه في المآل.

 وذمَّ سادتَه وكبراءَه؛ من أطاعَهم فأضلُّوه السَّبيلَ، كما حمِد ربَّه مَن صدَق في إيمانه؛ فاتخذ مع الرسول سبيلًا، وَبَانَ صدقُ ما جاءت به الآثارُ النبوية؛ من الإخبار بما يكون، وواطأتها قلوبُ الذين هم في هذه الأمة مُحدَّثون، كما تواطأت عليه المُبشِّرات؛ التي أُريها المؤمنون، وتبيَّن فيها الطائفةُ المنصورة الظاهرة على الدين، الذين لا يَضرهم مَن خالفهم، ولا مَن خذلهم إلى يوم القيامة، حيث تحزَّبت الناسُ ثلاثة أحزاب:
 1/ حزبٌ مجتهدٌ في نصر الدين.
 2/ وآخر خاذلٌ له.
 3/ وآخر خارجٌ عن شريعة الإسلام. 

وانقسم الناس ما بين؛ مأجورٍ ومَعذور، وآخر قد غرَّه بالله الغَرور. وكان هذا الامتحانُ تمييزًا من الله وتقسيمًا، {لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب:24].

 فكان من حكمة الله ورحمته بالمؤمنين؛ أن ابتلاهم بما ابتلاهم به ليُمحِّص اللهُ الذين آمنوا، ويُنيبوا إلى ربِّهم، وليُظهر مِن عدوِّهم ما ظهر منه مِن البغي والمَكر والنَّكث، والخروج عن شرائع الإسلام، فيقوم بهم ما يَستوجبون به النصر، وبِعَدوِّهِم ما يستوجبُ به الانتقام

(مجموع الفتاوى)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لم ينتهِ الحبّ..

لم ينتهِ الحبُّ، لكن صبرنا نفِدا ! وعلّةُ الحبّ من ينسى الذي وعدا.. قلنا نعودُ غدًا ما حلّ فيه فلَم نُوفِّ في الغدِ ما قلنا يكونُ غدا ؟! قلنا نعودُ وحمّلنا الهوى أملاً ، أكانَ كلُّ الذي قلناهُ محضَ سُدى ؟! اليومَ أُعلنُ أنَّ البُعدَ منتصرٌ ، على الوفاءِ، وأنّ الشوقَ قد بَرُدا ! وأنَّ للوقتِ آثارًا نلاحظُها، على الحنينِ، وأن°˖للانتظارِ مدى.. وأنَّ ما كان في العينينِ مشتعلاً ، ما عادَ لمّا أطَلنا البينَ متّقدا ! وأنَّ أكذبَ وعدٍ قد نواعدهُ ، وعدٌ يكون مداهُ : العمرَ والأبدا.. لم ينتهِ الحبُّ، حاشى الحبَّ في دمنا أن ينتهي وهو من هذي الدما عُقِدا ولا نقول سرابٌ ما مضى، أبدًا ! ولو جحدناه دمعُ العينِ ما جَحدا.. لهُ علينا شهودٌ كلّما طرقت ذكرى لهُ، زلزلت في طرقها الجسدا .. لكنَّ للروحِ حدًّا لا تجاوزهُ في الصبرِ، والبعدُ فاقَ الصبرَ والجلدا ! اللهُ يشهدُ أنّي ما ارتضيت لنا جراحنا والأسى والحزنَ والكمدَا ولا رضيتُ لماضينا وقصتنا ، هذي النهايةَ، والأوجاعَ والنكدَا ولا انتهى الحبُّ في قلبي، وما فُقِدت مشاعري، لكنِ الصبرُ الذي فُقِدا !! اليومُ أُخفِضُ راياتي وأُسلِمُها للوقتِ،...

مُقال مُختار : النبوغ - مصطفى لطفي المنفلوطي

- من العجز أنْ يزدري المرء نفسه فلا يقيم لها وزنًا، وأنْ ينظر إلى من هو فوقه من الناس نظرَ الحيوان الأعجم إلى الحيوان الناطق. وعندي أنَّ مَن يخطئ في تقدير قيمته مستعليًا خيرٌ مِمَّن يخطئ في تقديرها متدليًا، فإنَّ الرجل إذا صَغُرَتْ نفسُه في عين نفسه يأبى لها مِنْ أحواله وأطواره إلا ما يشاكل منزلتها عنده، فتراه صغيرًا في علمه، صغيرًا في أدبه، صغيرًا في مروءته وهمته، صغيرًا في ميوله وأهوائه، صغيرًا في جميع شئونه وأعماله، فإن عَظُمَتْ نفسه عظم في جانبها كلُّ ما كان صغيرًا في جانب النفس الصغيرة. ولقد سأل أحد الأئمة العظماء ولده، وكان نجيبًا: «أيَّ غايةٍ تطلب في حياتك يا بُنَيَّ؟ وأيَّ رجلٍ من عظماء الرجال تحب أن تكون؟» فأجابه: «أحب أن أكون مثلك.» فقال: «ويحك يا بنيَّ، لقد صغرت نفسك، وسَقَطَتْ هِمَّتُكَ، فلتبكِ على عقلك البواكي! لقد قدَّرتُ لنفسي يا بنيَّ في مبدأ نشأتي أن أكون كعليِّ بن أبي طالب، فما زلت أجِدُّ وأكدح حتى بلغت المنزلة التي تراها، وبيني وبين عليٍّ ما تعلمُ من الشأو البعيد والمدى المستحيل، فهل يسرُّك — وقد طلبتَ منزلتي — أن يكون ما بينك وبيني من المدى مثل ما بيني وبين عل...

ملخص محاضرة: القراءة والمعرفة في زمن شبكات التواصل - للأستاذ عبد الله الوهيبي

عنوان المحاضرة: القراءة والمعرفة في زمن شبكات التواصل. المُحاضِر فيها: أ. عبد الله الوهيبي. مدّة المحاضرة:  1:15:48 -أهم عناصر المحاضرة: 1- ملامح المرحلة الجديدة في التواصل الإلكتروني (شبكات التواصل الاجتماعي). 2- آثار شبكات التواصل الإجتماعي: (اجتماعية - نفسية - اقتصادية - أخلاقية وقانونية - سياسية - علمية ومعرفية). 3- أفكار عملية للقراءة واستثمار شبكات التواصل. من ملامح المرحلة الجديدة: أرقام سريعة لشبكات التواصل: عدد المستخدمين النشطين 3 مليار و400 مليون نقريبًا موزّعين على الفيسبوك والواتساب وتويتر وإنستاجرام واللاين. إحصائية استخدام الشبكات في السعودية: 14% = أقل من ساعتين. 24% = بين 2 و4 ساعات. 13% = بين 4 إلى 8 ساعات. 5% = أكثر من 8 ساعات. 42%= متصل دائمًا. - في أكثر من7 منصّات لشبكات التواصل الاجتماعي يتفوّق الحضور النسائي بنسبة جيدة على الرجال [ سناب شات، إنستاجرام ، واتس آب، تويتر، فيس بوك ] آثار شبكات التواصل: 1- آثار اجتماعيّة 2- نفسيّة 3- اقتصاديّة 4- قانونية و أخلاقية 5- علميّة ومعرفية 6- سياسية 7- صحيّة 8- تربوية. - الآثار الاجتماعية:   1- ض...