فصل : في ذكر الأمور التي يستمد منها الإيمان :
• واالله تعالى قد جعل لكل مطلوب سببًا وطريقًا يوصل إليه، والإيمان أعظم المطالب وأهمها وأعمها، وقد جعل الله له مواد كبيرة تجلبه وقويّه، كما كان له أسباب تضعفه وتوهيه.
ومواده التي تجلبه وتقويه أمران، مُجمل ومفصّل:
• أما المُجمل فهو: التدبر لآيات الله المتلوّة، من كتاب الله والسُنّة، والتأمل لآياته الكونيّةِ على اختلافِ أنواعها، والحرص على معرفةِ الحَقِّ الذي خُلِقَ له العبد، والعملُ بالحقِّ، فجميع الأسباب مرجعها إلى هذا الأصل العظيم.
• وأمّا التفصيل: فالإيمان يحصل ويقوى بأمور كثيرة:
1- منها -بل أعظمها-: معرفةُ أسماءِ اللهِ الحُسنى الواردة فيالكتابِ والسنة، والحرص على فهم معانيها والتعبد لله فيها.
فمعرفتها تتضمن أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية وتوحيد الألهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذه الأنواع هي رُوحُ الإيمان ورَوْحُه، وأصله ووغايته؛ فكلّما ازداد العبد معرفةً بأسماء الله وصفاته ازداد إيمانُهُ، وقوِيَ يقينُهُ.
2- ومنها: تدبر القرآن الكريم على وجه العموم، فإن المتدبر لا يزال يستفيد من علوم القرآن ومعارفه ما يزدادُ به إيمانًا، كما قال الله تعالى: "وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" ( الأنفال:2).
3- وكذلك معرفةُ أحاديث النبي- صلى الله عليه وسلم، وما تدعو إليه من علوم الإيمان وأعماله، كُلُّها من مُحصّلات الإيمان وُمقوياته؛ فكُلّما ازداد العبد معرفةً بكتاب الله وسُنّةِ رسوله، ازداد إيمانُهُ ويَقينُهُ، وقد يصلُ في علمهِ وإيمانِهِ إلى مرتبة اليقين.
4- ومن طُرق مُوجبات الإيمان وأسبابه: معرفةُ النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعرفةُ ما هو عليه من الأخلاق العالية، والأوصاف الكاملة.
فإنّ من عَرَفهُ حقّ المعرفة لم يرتب في صِدقِهِ وصدقِ ما جاء به من الكتاب والسُنّةِ والدين الحق.، كما قال الله تعالى: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ( المؤمنون - 69)
أي: معرفَتُهُ صلى الله عليه وسلم تُوجب للعبدِ المبادرة إلى الإيمان ممن لم يُؤمن، وزيادة إيمان ممن آمن به.
5- ومن أسباب الإيمان ودواعيه: التفكّر في الكون؛ في خلق السماوات والأرض ومافيهنّ من المخلوقات المتنوعة، والنظر في نفس الإنسان، وما هو عليه من الصفات.
فإنّ ذلك داعٍ قويّ للإيمان، لما في هذه الموجودات من عظمةِ الخلقِ الدّالِّ على قُدرةِ خالقها وعظمتِهِ، وما فيها من الحُسن والانتظام والإحكام الذي يُحّير الألباب، الدّال على سعةِ علم الله، وشمولِ حكمته، وما فيها من أصناف المنافع والنعم الكثيرة التي لا تُعد ولا تُحصى، الدّالة على سعة رحمة الله، وجُودِهِ وبرّه. وذلك كُلُّهُ يدعو إلى تعظيم مُبدعها وبارئها وشُكره، واللهج بذكره وإخلاص الدين له؛ وهذا هو روح الإمان وسرّه.
6- وأسباب الإيمان ودواعيه: الإكثار من ذكر الله كلّ وقتٍ، ومن الدعاء الذي هو مُخُّ العبادة.
فإنّ الذكر لله يغرس شجرة الإيمان في القلب، ويُغذيها ويُنمّيها، وكُلّما ازداد العبد ذكرًا لله، قويَ إيمانه، كما أنّ الإيمان يدعو إلى كثرة الذكر، فمن أحبّ الله أكثَرَ من ذكره. ومحبّةُ اللهِ هي الإيمانُ، بل هي رُوحُهُ.
7- ومن الأسباب الجالبة للإيمان: معرفةُ محاسن الدين.
فإنّ الدين الإسلامي كُلُّهُ محاسِن: عقائِدُهُ أصحّ وأصدقها وأنفعها، وأخلاقُهُ أحمدُ الأخلاق وأجملها، وأعماله وأحكامه أحسنُ الأحكام وأعدلُها، وبهذا النظر الجليل يُزِّينُ الله الإيمان في قلب العبد ويُحببه إليه. كما امتنّ الله به على خيارِ خَلقهِ بقولِهِ: "وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ " (الحجرات - 7).
8- ومن أعظم مقويات الإيمان: الاجتهاد في التحقُّقِ في مقام الإحسانِ، في عبادة الله والإحسان إلى خَلقِهِ فيجتهدُ أن يعبُدَ اللهَ كأنُّ يُشاهدُهُ ويراه، فإن لم يَقْوَ على هذا، استحضَرَ أن الله يُشاهدُهُ ويراه، فيجتهد في إكمال العَمَلَ وإتقانِهِ، ولا يزالً العبدُ يُجاهُِ نَفْسَهُ ليتحقّق بهذا المقام العالي، حتّى يَقوى إيمانُهُ ويقينه، ويصِلَ في ذلك إلى حقّ اليقين -الذي هو أعلى مراتب اليقين- فيذوق حلاوة الطاعات، ويَجدَ ثَمَرَةَ المُعاملات، وهذا هو الإيمانُ الكامل.
9- ومنها قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ المُؤمِنُونَ) إلى قوله: (أولئِكَ هُمُ الوارِثُونَ) الآية [المؤمنون: 1-10]:
فهذه الصفات السبع، كًلُّ واحدٍ منها تُثمرُ الإيمان وتُنمّيه، كما أنها من صفات الإيمان وداخلةٌ في تفسيره.
- فحضور القلب في الصلاة، وكَونُ المُصلّي يُجاهد نفسَهُ على استحضار ما يقوله ويفعلُهُ؛ من القراءة والذّكر والدعاءِ فيها، ومن القيام والقعود، والركوع والسجود: من أسباب زيادة الإيمان ونُمُوّهِ.
وهكذا في باقي الصفات المذكورة..
10- ومن دواعي الإيمان وأسبابه، الدعو إلى الله وإلى دينه، والتواصي بالحقّ والتواصي بالصبر، والدعوة إلى أصل الدين، والدعوة إلى التزامِ شرائِعِهِ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
• وبذلك يَكْمُلُ العبدُ بنفسِهِ، ويُكمّل غَيرَهُ، كما أقسم تعالى العصر أنّ جنس الإنسانِ لفي خُسر، إلا مَن اتصف بصفاتٍ أربع: الإيمان والعمل الصالح الذين بهما تكميلُ النفس، والتواصي بالحق الذي هو العلم النافع، والعملُ الصالح ال، والدين الحق، وبالصبرِ على ذلك كُلّهِ، وبهما يُكمِّلُ غَيرَهُ.
11- ومن أهم موادِّ الإيمان ومُقوّياتِهِ: توطينُ النفسِ على مقاومات ما يُنافي الإيمان؛ مِن شُعَبِ الكُفرِ والنفاقِ، والفُسوقِ والعصيان.
- فإنّهُ كما أنّهُ لابُدّ في الإيمان من فِعلِ جميع الأسباب المقوية المُنميّة له؛ فلا بُدّ -مع ذلك- من دفعِ الموانع والعوائق، وهي: الإقلاعُ عن المعاصي، والتوبة مما يقعُ منها، وحفظ الجوارح كُلِّها عن المُحرمات، ومُقاومة فِتن الشبهات القادحة في علوم الإيمان، المُضعِفةِ له، والشهوات المُضعفة لإرادات الإيمان؛ فإن الإرادات التي أصلُها الرّغبة في الخير ومحّبته والسعي فيه، لا تتم إلا بترك إرادات ما يُنافيها؛ من رغبة النفس في الشر، ومُقاومة النفس الأمارة بالسوء.
• فشجرةُ الإيمان - كما تقدّم- محتاجةٌ إلى تعاهُدها كُلّّ وقتٍ بالسّقي، وهو المُحافظة على أعمال اليوم والليلة من الطاعات والعبادات، وإلى إزالة ما يَضّرها من الصخور والنوابِتِ الغريبة الضّارة، وهو العفّةُ عن المُحرمات قولاً وفعلا، فمتى تمّت هذه الأمور نما هذا البستان وزَهَا، وأخرج الثِّمارَ المتنوعة.
فاللهم حبّب إلينا الإيمان وزيّنهُ في قلوبنا؛ وكَرّه إلينا الكفر والفسوقَ والعصيان؛ واجعلنا من الراشدين؛ بفضلك ومنّتِكَ؛ إنّك أنت العليم الحكيم.
—
. مُستفاد من كتاب: التوضيح والبيان لشجرة الإيمان.
للشيخ عبد الرحمن السعدي رحمهُ الله.
تعليقات
إرسال تعليق