التخطي إلى المحتوى الرئيسي

هل أنا جديرٌ بآلامي؟

- "يوجد شيء واحد فقط يروّعني.. وهو ألا أكون جديرًا بآلامي. " - فيودور دوستويفسكي

الآلام، الابتلاءات، المِحن، الاختبارات.. كل هذه الأمور من سنن الحياة ولابد من كل إنسان أن تمر به شيء منها.. فلبعض الناس كانت هذه الآلام سبيله إلى أن يكون شيئًا عظيمًا، فكان الألم والابتلاء هما المصنع أو المدرسة التي جعلت منه شخصًا عظيمًا.. لماذا؟ لأنه كان على قدرٍ من المسؤولية تجاه هذه الآلام.. عرف حقيقتها وعرِف كيف أن قيمتها ليست في ذاتها، ولكنّ قيمتها فيما يفعل الإنسان ويتصرّف تجاه هذه الآلام.. وأن ينظر للغاية منها سواء كانت اختبار أو تمحيص أو تقوية لبأسه وقوّته.. 

فقد يمر العديد من الناس بنفس الآلام أو بآلام مقاربة.. لكن لماذا لا يكونون جميعهم عظماء ومؤثرون؟ لأن تعامل كل منهم مع الألم يختلف عن الآخر.. منهم الذي عرف قدر ألمه وفهم غايته فكان سبيله للرقيّ وللغاية الأسمى، ومنهم من كان الألم عذابًا له فقط ولم يتعدّى كونه كذلك

مثال صغير لتوضيح الفكرة.. 


 
في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "

 (رُبَّ صائمٍ ليس له من صيامِه إلا الجوعُ ، و رُبَّ قائمٍ ليس له من قيامِه إلا السَّهرُ)

فهذا الصائم يجد في صيامه بعض آلام الجوع والعطش.. لكن لم يتعدّى في صيامه الغاية الأسمى من مجرد هذا الألم وهو تحقيق التقوى في القلب كما قال الله تعالى" (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]. فهو في هذه الحالة لم يعرف معنى ألمه فتعامل معه معاملة خاطئة باقترافه أفعال لا توصله للغاية من هذا الألم.. فلم يكن في حالته تلك جديرًا بهذا الألم لأنه لم يصل للمعنى الأعظم منه إلى مجرد ترك الطعام والشراب والصبر على آلامهما،

وكذلك في حقّ الذي يقوم بالليل ليُصلّي ولكنه يُبطل ذلك بأفعالٍ منافية لآداب الصلاة أو بعدم حضور قلبه فيها فينشغل عنها كما لو أنه غير حاضر بها، أو يفعل ذلك رياءًا أو غصبًا.. فهذا كذلك لم يصل للمعنى الأسمى من هذا التعب والألم فيذهب سُدى لأنه لم يستحضر حقيقته والغاية منه. 

كذلك في كل ألم أو مِحنه في حياة الإنسان.. هل هو جدير بآلامه؟ هل هو على قدر من الاستحقاق بأفعاله ما يجعل لهذه الآلام معنىً أسمى، وليست مجرد محنة عابرة؟

يقول  د. فيكتور فرانكل في كتابه " الإنسان يبحث عن المعنى:

"إن الطريقة التي يتقبّل بها الإنسان قدره، ويتقبل بها كل ما يحمل من معاناة، والطريقة التي يواجه بها مِحنه، كل هذا يهيء له فرصة عظيمة -حتى في أحلك الظروف- لكي يضيف إلى حياته معنى أعمق.

وقد تظل هى كرامته الإنسانية ، ويُصبح أقرب في كيانه إلى الحيوان منه إلى الانسان،

وقد تظل هذه الحياة حياة شجاعة كريمة ، لا تقوم على الأنانية ، ويجوز أن ينسى الإنسان في نضاله المرير مِن أجل المحافظة على الذات ،  ويجوز أن ينسى كرامته الإنسانية ، ويُصبح أقرب في كيانه إلى الحيوان منه إلى الانسان، 

وهنا يجد الانسان أمامه فرصة إما أن يقتنصها أو يتركها تفلت من بين يديه، ويجوز في المواقف الصعبة أن يفيد في تحقيق القيم المعنوية أو يضيعها، وبذلك يقرر الشخص ما اذا كان جديراً بآلامه أو غير جدير بها."

ويقول الكاتب الكبير أحمد أمين في كتابه فيض الخاطر:

" تعال معي نبحث في عالم الأدب: أليس أكثره وخيره وليد الألم؟ 

أوليس الغزل الرقيق نتيجة لألم الهجر أو الصد أو الفراق؟ ذلك الألم الطويل العريض العميق تتخلله لحظات قصيرة من وصال لذيذ؛ وليس هذا الوصال اللذيذ بمنتج أدبًا كالذي ينتجه ألم الفراق. 

وإن الأديب كلما صهره الحب، وبرح به الألم، كان أرقى أدبًا، وأصدق قولًا، وأشد في نفوس السامعين أثرًا.

 ولو عشق الأديب فوفق كل التوفيق في عشقه، وأسفه الحبيب دائمًا، ومتعه بما يرغب دائمًا، ووجد كل ما يطلب حاضرًا دائمًا لسئم ومل، وتبلدت نفسه، وجمدت قريحته، ولم يخلف لنا أدبًا ولا شبه أدب؛ ولو كان مكان مجنون ليلى عاقل ليلى لكان كسائر العقلاء — إنما فَضَّل المجنون؛ لأن نفسه كانت أشد حسًّا وأكثر ألمًا.

لولا علو همة المتنبي ما كان شعره، وما علو همته؟

أليست كراهية الحياة الدون، والألم من أن يُعَد من سَقَط المتاع، والتطلع لأن يكون له الصدر أو القبر؟

وعلى هذا المحور دارت حياته، ودار شعره؛ ولو نشأ قانعًا لما فارق بلدته، ولكان سَقَّاء كأبيه يروي الماء ولا يروي الشعر.

وما قيمة المعرِّي لولا ألمه من الفقر والعمى؟ 
لو كان غنيًّا بصيرًا لما رأيت لزومياته ولا أعْجِبْت بكلماته، 
ولكان إنسانًا آخر ذهب فيمن ذهب؛ إنما خلده ألم نفسه، وأبقى اسمه قوة حسه.

ولو شئتُ لعددتُ كثيرًا من أدباء العرب والغرب، أنطقهم بالأدب حينًا ألم الفقر، 
وحينًا ألم الحب، وحينًا ألم النفي، وحينًا ألم الحنين إلى الأوطان، إلى غير هذا من أنواع الآلام."

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لم ينتهِ الحبّ..

لم ينتهِ الحبُّ، لكن صبرنا نفِدا ! وعلّةُ الحبّ من ينسى الذي وعدا.. قلنا نعودُ غدًا ما حلّ فيه فلَم نُوفِّ في الغدِ ما قلنا يكونُ غدا ؟! قلنا نعودُ وحمّلنا الهوى أملاً ، أكانَ كلُّ الذي قلناهُ محضَ سُدى ؟! اليومَ أُعلنُ أنَّ البُعدَ منتصرٌ ، على الوفاءِ، وأنّ الشوقَ قد بَرُدا ! وأنَّ للوقتِ آثارًا نلاحظُها، على الحنينِ، وأن°˖للانتظارِ مدى.. وأنَّ ما كان في العينينِ مشتعلاً ، ما عادَ لمّا أطَلنا البينَ متّقدا ! وأنَّ أكذبَ وعدٍ قد نواعدهُ ، وعدٌ يكون مداهُ : العمرَ والأبدا.. لم ينتهِ الحبُّ، حاشى الحبَّ في دمنا أن ينتهي وهو من هذي الدما عُقِدا ولا نقول سرابٌ ما مضى، أبدًا ! ولو جحدناه دمعُ العينِ ما جَحدا.. لهُ علينا شهودٌ كلّما طرقت ذكرى لهُ، زلزلت في طرقها الجسدا .. لكنَّ للروحِ حدًّا لا تجاوزهُ في الصبرِ، والبعدُ فاقَ الصبرَ والجلدا ! اللهُ يشهدُ أنّي ما ارتضيت لنا جراحنا والأسى والحزنَ والكمدَا ولا رضيتُ لماضينا وقصتنا ، هذي النهايةَ، والأوجاعَ والنكدَا ولا انتهى الحبُّ في قلبي، وما فُقِدت مشاعري، لكنِ الصبرُ الذي فُقِدا !! اليومُ أُخفِضُ راياتي وأُسلِمُها للوقتِ،...

مُقال مُختار : النبوغ - مصطفى لطفي المنفلوطي

- من العجز أنْ يزدري المرء نفسه فلا يقيم لها وزنًا، وأنْ ينظر إلى من هو فوقه من الناس نظرَ الحيوان الأعجم إلى الحيوان الناطق. وعندي أنَّ مَن يخطئ في تقدير قيمته مستعليًا خيرٌ مِمَّن يخطئ في تقديرها متدليًا، فإنَّ الرجل إذا صَغُرَتْ نفسُه في عين نفسه يأبى لها مِنْ أحواله وأطواره إلا ما يشاكل منزلتها عنده، فتراه صغيرًا في علمه، صغيرًا في أدبه، صغيرًا في مروءته وهمته، صغيرًا في ميوله وأهوائه، صغيرًا في جميع شئونه وأعماله، فإن عَظُمَتْ نفسه عظم في جانبها كلُّ ما كان صغيرًا في جانب النفس الصغيرة. ولقد سأل أحد الأئمة العظماء ولده، وكان نجيبًا: «أيَّ غايةٍ تطلب في حياتك يا بُنَيَّ؟ وأيَّ رجلٍ من عظماء الرجال تحب أن تكون؟» فأجابه: «أحب أن أكون مثلك.» فقال: «ويحك يا بنيَّ، لقد صغرت نفسك، وسَقَطَتْ هِمَّتُكَ، فلتبكِ على عقلك البواكي! لقد قدَّرتُ لنفسي يا بنيَّ في مبدأ نشأتي أن أكون كعليِّ بن أبي طالب، فما زلت أجِدُّ وأكدح حتى بلغت المنزلة التي تراها، وبيني وبين عليٍّ ما تعلمُ من الشأو البعيد والمدى المستحيل، فهل يسرُّك — وقد طلبتَ منزلتي — أن يكون ما بينك وبيني من المدى مثل ما بيني وبين عل...

ملخص محاضرة: القراءة والمعرفة في زمن شبكات التواصل - للأستاذ عبد الله الوهيبي

عنوان المحاضرة: القراءة والمعرفة في زمن شبكات التواصل. المُحاضِر فيها: أ. عبد الله الوهيبي. مدّة المحاضرة:  1:15:48 -أهم عناصر المحاضرة: 1- ملامح المرحلة الجديدة في التواصل الإلكتروني (شبكات التواصل الاجتماعي). 2- آثار شبكات التواصل الإجتماعي: (اجتماعية - نفسية - اقتصادية - أخلاقية وقانونية - سياسية - علمية ومعرفية). 3- أفكار عملية للقراءة واستثمار شبكات التواصل. من ملامح المرحلة الجديدة: أرقام سريعة لشبكات التواصل: عدد المستخدمين النشطين 3 مليار و400 مليون نقريبًا موزّعين على الفيسبوك والواتساب وتويتر وإنستاجرام واللاين. إحصائية استخدام الشبكات في السعودية: 14% = أقل من ساعتين. 24% = بين 2 و4 ساعات. 13% = بين 4 إلى 8 ساعات. 5% = أكثر من 8 ساعات. 42%= متصل دائمًا. - في أكثر من7 منصّات لشبكات التواصل الاجتماعي يتفوّق الحضور النسائي بنسبة جيدة على الرجال [ سناب شات، إنستاجرام ، واتس آب، تويتر، فيس بوك ] آثار شبكات التواصل: 1- آثار اجتماعيّة 2- نفسيّة 3- اقتصاديّة 4- قانونية و أخلاقية 5- علميّة ومعرفية 6- سياسية 7- صحيّة 8- تربوية. - الآثار الاجتماعية:   1- ض...